نظرة نقدية جديدة لمقدمة القصيدةالجاهلية….

دأب اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين على تنظيم أمسية ثقافية تحت عنوان “شاي الأربعاء”، على مستوى مقهى الأدب الذي يقع قرب ملتقى جامبور، وقد توافق تخليد اليوم العالمي للشاي هذا العام مع تنظيم الاتحاد لأمسية ثقافية قدم خلالها الدكتور الأديب محمد فال بن محمد محمود بن زياد محاضرة تحت عنوان: “تأصيل الوصل المقطوع بين المقدمة والموضوع”.

افتتح معالي الوزير والأمين العام للاتحاد السيد محمد الأمين بن الناتي الجلسة بكلمة باسم رئيس الاتحاد رحب من خلالها بالحاضرين ونوه بموضوع المحاضرة وجدته، كما تولى الدكتور والنائب الشيخ بن أحمدُّ تنسيق الجلسة، حيث أطر الموضوع وأطلع الحاضرين على البرنامج ثم أعطى القوس باريها، فطفق الدكتور محمد فال يسقينا كؤوسا من الشاه الشهي علا بعد نهل، فشد أسماع الحاضرين ولفت انتباههم بمقدمة نقدية غير تقليدية، أشار فيها إلى أنه عكف منذ عقد من الزمن على تحليل ودراسة علاقة مقدمة القصيدة الجاهلية بأجزائها الأخرى، وقد انتقى عينة من خمس قصائد هي (سما لك شوق) لامرئ القيس بن حجر، و(طحا بك قلب) لعلقمة الفحل، و(يا دار مية) للنابغة الذبياني، و (أمن أم أوفى) لزهير بن أبي سلمى، و(آذنتنا ببينها أسماء) للحارث بن حلزة، وقد توصل بعد استنطاق النصوص، وتحليل المعطيات، وجمع وقراءة السياقات إلى افتراض مؤداه وجود وحدة عضوية بين مقدمات القصائد الخمس مع مختلف أجزائها، وهو ما ينسف الرأي النقدي السائد لدى النقاد والمهتمين بالأدب العربي والقائم على عدم وجود بنية عضوية في القصيدة الجاهلية.

اختار الباحث محمد فال معلقة النابغة الذبياني كنموذج لاستعراض نظرته وقراءته التأملية، فوضع الهناء مواضع النقب، واستدعى معارفه التاريخية ليضعنا في الجو السياسي لقصر الخورنق ، مشيرا إلى أن النابغة ليس مجرد شاعر بلاط يمدح الملك النعمان بن المنذر، بل هو نديم وسمير ومستشار عسكري مؤتمن، واصفا أياه بأنه ينتمي للدولة العميقة.ثم قام بتحليل التجاذبات السياسية بين لوبيات القصر، خاصة ما كان منها بين النابغة والحاجب عصام من جهة والمنخل اليشكري والقريعيين من جهة أخرى، ثم استفاض في الحديث عن قصيدة المتجردة مؤكدا على أن الأحاديث التي دارت حولها في القصر كانت هي السبب المباشر في جفاء النعمان للنابغة، وهدره لدمه،ولجوء الأخير إلى الغساسنة خوفا من بطش النعمان.

توقف الباحث عند اسم مية التي استهل الشاعر قصيدته بخطاب دارها، مشيرا إلى أن مطلع القصيدة لايمكن أن يتضمن اسما مجهولا أو اعتباطيا، منبها إلى ورود نفس الاسم في مطلع قصيدة المتجردة:
أمن آل مية رائح أم مغتدي
عجلان ذا زاد او غير مزود

وتوصل الباحث إلى افتراض منطقي مؤداه أن مية عبارة عن اسم مستعار أطلقه الشاعر والملك على المتجردة صونا لها من الابتذال.

كما توقف الباحث أيضا عند قول الشاعر (وقفت بها أصيلانا) حيث أشار إلى أن الأصيل مرحلة بين زمنين مختلفين حيث يتلاشى الضياء ويزحف الظلام، وهو ما اعتبره الباحث رسالة بعث بها الشاعر إلى الملك ليذكره بحجم المعاناة التي يعيشها منذ فراقه له، حيث تعتبر قصيدة المتجردة بمثابة اللحظة الفارقة التي حولت صداقتهما إلى عداوة، ووصالهما إلى قطيعة.

سلط الباحث الضوء على البيت الثالث حيث توقف عند كلمتي (الأواري) و(المظلومة) ، مشيرا إلى أنه ليس من عادة الشعراء الوقوف على الأواري لأنها محبس الخيل وهي من مستلزمات القصور لا الخيم، يقول امرؤ القيس بن حجر يصف شدة نشاط حصانه:

ويخضد في الآري حتى كأنما
به عرة من طائف غير معقب

ويقول المثقب العبدي واصفا حصانه:

داويته بالمحض حتى شتا
يجتذب الآري بالمرود

أما كلمة (المظلومة) فيرى الباحث أن الشاعر تعمد إقحامها في البيت، للإشارة إلى حجم الظلم الذي تعرض له من أعدائه.

توقف الباحث أيضا عند البيت العاشر من المعلقة الذي يقول فيه الشاعر:

من وحش وجرة موشي أكارعه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

مستطردا السبب الأساسي لعداء القريعيين للنابغة، والذي يعود إلى الجهد الكبير الذي بذله الأخير في سبيل حصول النعمان بن المنذر على سيف نادر كان بحوزتهم يدعى “ذو الريقة” وقد ذكر الأصمعي أنه سمي بذلك الاسم لكثرة جوهره، وحسن فرنده، وصفاء رونقه.

وقد استفاض الباحث في شرح نظرته التأملية لقصيدة النابغة، ففك المعمى، وفصل بين الاسم والمسمى، ووصل المقدمة بباقي أجزاء القصيدة، مؤكدا على أنها لم تتضمن أي حشو أو زيادة، وأنها مليئة بالإشارات والرسائل المشفرة التي يفهمها المتلقي (النعمان).

أشفع العرض بمداخلات قيمة؛ فكان أول المعقبين هو الأستاذ والأديب أبوبكر البوري الذي سلط بدوره الضوء على معلقة لبيد بن عامر، فاستنطق المقدمة ومدى مواءمتها مع أجزاء القصيدة الأخرى، ثم عقب الدكتور والمثقف البارز ابوه بن بلبلاه على محاضرة الأستاذ محمد فال مشيرا إلى أن الباحث جمع بين سعة معارف الأدباء، وتجرد ومنطقية الرياضيين، كما أكد على جدة الموضوع وجدية الباحث.

من ناحية أخرى فقد أثرت مداخلات الدكاترة أحمد دولة بن المهدي، ومحمد الأمين بن الناتي، ومحمد عالي عم الأمين، وغيرهم النقاش، وسلطت الضوء على زوايا هامة تتعلق بالموضوع، كما كانت مداخلة الأديب والكاتب المختار السالم أحمد سالم مفيدة وطريفة وهادفة.

أما فيما يتعلق بصاحبكم، فقد مكنته هذه السانحة من لقاء قامات علمية سامقة وكتاب وأدباء بارزين، كما تشرفت بلقاء أستاذي الدبلوماسي محمد المختار بن أحمد الذي درسني مادة الرياضيات في المرحلة الثانوية.

من صفحة يعقوب اليدالى

شارك هذه المادة