هنا الركيز .. كثيرٌ من الساسة وقليلٌ من السياسة

موسم خريفي كانت تنتشي به المدينة الممتدة شمال بحيرة خيارة، وهي التسمية الرسمية لبحيرة اركيز في وثائق ومراسلات الإدارة الفرنسية قبل استقلال البلاد.
وفود وأسرٌ، من جميع أنحاء موريتانيا، تنتظر بفارغ الصبر عطلة الأسبوع، لتسافر لقضاء يوم أو يومين، في نزهة سياحية في منتجعات اركيز، التي تتصدرها “جوخة” من حيث الجاذبية والشهرة، مع أن المناظر الخلاّبة، ما بين أفجار، شرقي التاكيلالت، ومدينة الركيز لا يقل جمالاً عن أضاة “جوخة” ذاتها.
اركيز؛ مدينة زراعية، لها تاريخ يمتد لمئات السنين، وكانت حتى وقتٍ قريب سلة غذاء مناطق “لعكل” ثم إنها “مهجرٌ كبير” للنازحين من مختلف أرجاء المنطقة، ومستقرٌ للعديد من المستثمرين في مجالي الزراعة والتجارة.
في هذه الأيام من خريف السنوات الأخيرة، تكون المدينة محجاً وقبلة لكل أبناء القرى المجاورة أيضاً ، وينتظرونها بفارغ الصبر، فهنا تقام البطولات الرياضية والندوات الثقافية، زهنا يلتقي الأهل ويجتمع الأحبة، وهنا تعيش المدينة المنسية، غرة أيامها، وتلبس أبهى حلل الزينة والفرح والبهجة.
لا جديد، سوى أن اركيز أصبح وجهة للسياح من خارج دائرته، حتى من ولايات الوطن الأخرى، بحثاً عن منتجعات سياحية ومناظر طبيعية خلابة وساحرة ( جوخة – اگويليد – لعويجة – أم اجناح ) مثالاً لا حصراً.
المُعطى الجديد جعل من المدنية في هذه الأيام مصدر رزق وسوقاً يدر أرباحا خيالية، فبمجرد حلول موسم الخريف، تتحول منازل المدينة إلى غرف للإيجار، ومحلات للبيع، وتنشط فيها مهن صغيرة كالجزارة والطبخ والشواء وبناء الخيم، وبيع المثلجات على أنواعها، حتى أن الرواج وصل للحموم والماء و”العيش وباسي”.. زادت المداخيل، وزاد الغلاء على الساكنة، وتعاظمت الحاجة للكهرباء وللماء.
مع كل هذا فقد صاحب سكان المدينة منذ وقت ليس بالقصير، هم كبير، من تردٍ في الخدمات الأساسية ورداءة الكهرباء وانقطاعات متكررة للماء، وشبه انعدام للاتصال في أغلب أحياء المدينة ناهيكم عن ضواحيها.
غالباً ما عبر أبناء المدينة في اجتماعاتهم السياسية وعبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي ..كان كل همهم أن يجعلوا من مدينتهم عاصمة لمقاطعة من أكبر مقاطعات الوطن، وتحصل على أبسط مقومات العيش الكريم، وعزموا في الآونة الأخيرة على تنظيم وقفة احتجاجية سلمية يطالبون فيها بحقوقهم المكفولة، وفعلا نظموا وقفتهم الأربعاء الماضي، لكنها بقدرة قادر تحولت من وقفة احتجاجية سلمية إلى حراك تخريب وأعمال شغب، وحدث ما لم يكن في الحسبان.
حُرِقت منشآت الدولة وحطمت آلياتها وأجهزتها، وتعدى ذلك إلى الممتلكات الخاصة فنالت هي الأخرى من التدمير والنهب ما وثقته الصور وتداوله الشهود وأجمع عليه كل الحاضرين، وكل المدنية حاضرون.
هذا التخريب المفاجئ، أُسقط في أيدي بعض سياسي المدينة، ولم يجدوا من الحل إلا رمي سياسيين ومجموعات أخرى بالتُهم والوقوف وراء ما حصل..
السلطات في المدينة فتحت تحقيقا فوريا، حضره فريق من المحققين الأمنيين ووالي اترارزة؛ وحاكم المقاكعة؛ واستدعيّ فيه كل منتخبي المقاطعة وجها لوجه، وناقشوا ما حدث.. ودار النقاش التالي:
ألقى محمد ولد أحمدوا عمدة اركيز، باللائمة على ما اسماه بعض شباب قرية برينه، وقال بالحرف الواحد إن لديه فيديوهات تؤكد مشاركة وجوه من القرية في الأحداث.
الاتهام استنكره نائب المقاطعة الناجح ولد الطلبه، ورد بأن برينه مدينة لم تعرف في تاريخها بالتخريب والعنف؛ وبأن شبابها منشغلون بفوزهم في دوري كرة القدم المتواصل في اركيز، وينتظرون نهائيي البطولة، وطلب من ولد أحمدوا تقديم فيديوهاته؛ للتعرف على الأشخاص؛ مؤكدا استعداده لتقديمهم للجهات الأمنية وإحالتهم للعدالة لتطبيق القانون عليهم..
تم استعراضُ الفيديوهات، وتبين ، حسب المحققين، عدمُ وجود “برينيّ” واحد ضمن الصور المعروضة.
السلطات اعتقلت العشرات ومازالت عملية الاعتقال متواصلة والتحقيق جار، والمعلومات الواردة من المحققين، تفيد أن كل اللذين وجه لهم بعض السياسين التهم، لم يُعتقل منهم شخص واحد، ولم ترد أي معلومة ولو صغيرة بعلاقة لهم من قريب أو بعيد في الأحداث التي جرت.
البارحة وصل إلى اركيز قائد الدرك الوطني الجنرال بلاه ولد أحمد عيش؛ ودخل فور وصوله سلسلة اجتماعات مع فريق المحققين؛ وتابع سير التحقيقات؛ وعاد إلى العاصمة فجر اليوم في حدود الساعة السادسة صباحا..
سير التحقيق يقول إن كل المعلومات التي حصلوا عليها ستسفر من دبروا ونظموا ونفذوا إلى العدالة يوم الاثنين، فيما سيُطلق سراحٌ من لم يثبت ضلوعه في التخريب.
سياسياً، من السهل الممتنع تشخيص ما حدث في الركيز ،فالمقاطعة التي تعد من اكبر مقاطعات البلاد، نجح كل منتخبيها بتصويت مواطنِهم الأصلية، وكانت النشاز في دفاع منتخبيها عن مطالب السكان.
ومن البلاهة تدافع التهم بين السياسين حول المتسبب والآمر، مادام مركبهم تتقاذفه أمواجُ التهم من قبل السكان، فحين تحاجج الإدارة ممثلة في الوالي، وأمامهم جميعاً، بان أي منتخب لم يرفع لها تقريرا بالمشاكل المُلحة في اركيز، فذلك يعني التفريط في أمانة الانتخاب، ويذهبُ الجمهور هنا إلى أن المنتخبين لا يطرحون غير مشاكل قراهم وحُلفائهم.
ومما زاد طين “شمامه” بلة كون الوقفات الاحتجاجية السلمية لم تجد صدى لدي المسؤولين المحليين ، وعندها أخذ الغوغائيون زمام القيادة.
تشهد المقاطعة تنافساً سياسياً محموماً بين جناحين كبيرين أحدهما بقيادة النائب الناجح ولد الطلبة “بلدية برينه” ورجل الأعمال الحسن ولد الشيخ “انعيمه” و رجل الأعمال احماده ولد أبّه “الحضر”، والجناح الآخر بقيادة العمدة محمد ولد أحمدوا “انكرمجي” ورجل الأعمال والسياسة أحمد ولد سالم، عضو مجلس الشيوخ السابق “الحضر”.
ومن اللافت ألاّ أحد من قادة السياسة في المقاطعة يُقيم في المدينة، باستثناء جماعة “الحضر” فحتى النائب محمد كين يقيم في قرية “التشطيات” حيث عمقه الاجتماعي.
الواضح أن أحداث الأربعاء معزولة، ولا تَمتُ بصلة لمستوى وعي ساكنة المدينة، وستعود اركيز لسابق عهدها، وستظل أفئدة السياح تهوي إليها ، تبتغي المناظر الزاهية والراحة والطمأنينة، ..وستبقى اركيز رافدا اقتصاديا فذا، وموطنا جامعا لكل الفرقاء السياسين ولمختلف الشرائح والأعراق.

عبد الله ولد اتفغ المختار

شارك هذه المادة