في الواقع، ليست خافية مطلقا هي مظاهر الدولة في موريتانيا ولا تخفى كذلك مقابلاتها الدالة على السيبة في البلاد.
فالدولة كنظام بمفهومها الحديث كمؤسسات قضائية وتشريعية وتنفيذية وقوانين وشرائع وجيش وحوزة ترابية وعلاقات خارجية و..و.. موجودة.
لكنها قد لا تكون فعالة كما ينبغي، ولا حققت الدور المنوط بها اتجاه مواطنيها على الوجه المفترض، ولا في المكانة المناسبة التي كان يمكن أن تكون فيها لولا مظاهر السيبة التي تكون هي المعرقل الأساسي لعدم حصول ذلك.
ولا أدل على ذلك من نفوذ القبيلة والجهة والمحسوبية، مدعوما، بما يسميه السياسيون – ذو الدور في إرساء تلك المظاهر- بالمحاصصة السياسية، والحديث حول المشاركة الفاعلة لهؤلاء وألئك في الحكم لأن لهم نصيب ما، لا أرى مصوغا منطقيا له، فليس ذلك إلا نسخة حديثة من مظاهر السيبة، وغياب الانصياع لحكم الدولة التي تعني الوطن ومواطنيه كمجموعة متساوية في الحقوق والواجبات ومشتركة في العيش ومتحدة تحقيقا لأمنها وسلامتها وضمان بقائها وضمان إرث مناسب لأولادها وأحفادها كما تملي الفطرة ذلك، وتكون الكفاءة والنزاهة هي معايير اختيار مسيريها، وليس وكأن الدولة هي شركة مساهمة كما هو سائد وواضح لمن لا يريد أن يجانب الواقع.
دعوني أقول إن إسم موريتانيا كشكل خريطتها، وخريطتها مضبوطة بفعل فاعل، أما سكانها فهم شيع لولا كرم الله.
الكثير من الناشطين في سوق الخطابة يذهبون مذاهب شتى في ما بات يعرف عند العامة بإشكالية الوحدة الوطنية كمعوق أمام قيام الدولة، باعتبار أن إثنيات وأعراق متباينة وفئات أخرى، هي مكون شعب موريتانيا الحديثة، بيد أن المتعقل والدارس والمعايش لساكنتها سيلاحظ حقيقة أن تلك الاختلافات ليست هي مفرق أو مميز مكوناتها، ففي بيان الأمر أن الوحدة متحققة في الأساس بفعل العقيدة الموحدة والمصلحة المتحققة بحكم التاريخ والجغرافيا والتمازج الاجتماعي الضارب في قديم عهدها المتوسط.
وإن كان لا بد من الإشارة إلى أن تعزيز الوحدة الوطنية أمر مرغوب لإقامة الدولة واستمراريتها، فإن الإشكال المطروح في هذه الحالة ليس تماسك الأعراق المتماسكة واقعا، إنما المؤرق هو أولا: إيجاد “الوطنية” في حد ذاتها، وثانيا: عدم تماسك الأفراد في العائلة الواحدة داخل كل مكون من مكوناتها نتيجة لغياب التربية الوطنية وسيطرة العقل البدوي المعتاد على العيش الحر في البراري والصحاري دون ناه أو منته حيث لا وجود لمفهوم الحدود أو الحوزة الترابية “الوطن”!
إذن فما تحتاجه موريتانيا لتقوم قوية هو شعب وطني يبني ويشيد بلدا لا يرى على وجه المعمورة غيره وطنا لا يفرط فيه، وهذا لا يتأتى إلا بإرادة حقيقية تفهم الموضوع وتؤسس لبناء الفرد المواطني المنتمي قلبا وقالبا ولا ينتظر المساعدة ليقوم بواجبه اتجاه وطنه إحساسا بالمسؤولية الأخلاقية والواجب الديني والمنطق العقلي المكيف للمصلحة الخاصة في سياق المصلحة العامة الأمر الذي يتطلب ما سلف ذكره، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لابد من ترويض الشعب ليعتاد احترام الدولة ونظام الحكم.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن مستوى الوعي بهذه المسألة متباين لدى شرائح الشعب.
فنجد فيما لا يدع مجالا للشك أن العقلية البدوية التي لا تحترم الشخصية الاعتبارية للدولة كنظام حكم، وتتعامل مع مسؤولي الدولة بشيء من عدم الاحترام انطلاقا من قناعتها بأنها غير محكومة إلا من نفسها أو في أحسن الأحوال من جماعتها التقليدية، وتتعامل مع المسؤول في السلطة كونه من الفلانيين أو الفلانيين، هي الشريحة المسيطرة بحكم الكم والدور التاريخي في نشر الإسلام بالنسبة لشقها الصنهاجي معززا بوصول القبائل العربية الحسانية ابتداء من منتصف القرن الخامس عشر تقريبا والتي كان لها الدور في تعزيز تعريب البلاد، لكن ذلك كان في مقابل ترسيخ نظام القبيلة وإطلاق السيبة التي عرفت بها الأرض بعيد وصولهم إلى أن جاء المستعمر ولا زالت مظاهرها قائمة، وشق ثالث خلاسي أنتجه التمازج الاجتماعي بين الصنهاجيين والحسانيين وقبائل الماندينغ الإفريقية التي كانت صاحبة نفوذ واسع في غرب افريقيا بحكم سيطرتها على الممالك والإمبراطوريات التي كانت تحكم المنطقة.
تمازج عبر مراحل فرضها التعايش، ويمكن القول بأن هذه الفئات الثلاثة هي المكون الأساسي لما يعرف بالبيظان كثقافة وشريحة استمدت قوتها من تنوعها إضافة إلى كمها وهي المسيطرة على الدولة التي لا زالت صناعة فرنسية حتى الآن في حين أن الأمل قائم بأن تتحول موريتانيا إلى صناعة محلية متقنة الصنع خاصة أنها مكرمة بحفظ اللغة العربية وعلومها اتقانا وبخام نظام الإسلام الحافظة له نظريا.
لكن عدم قيام دولة إسلامية كنظام عملي يرسخ، بدل نظام القبيلة والترحال تبعا للمراعي وعدم حصول اندماج مع الممالك والامبراطوريات الإفريقية التي لم تخلو بدورها من عقلية القبيلة أنذاك، وبسبب التعايش الخجول بين الأعراق المتباينة في هذه البقاع في المراحل المتقدمة، الأمر الذي كان يمكنه خلق تراكمية حضارية تؤسس عليها موريتانيا الحديثة كغيرها من بقاع العالم التي قامت أحسنها على أنقاض حضارات لتكون تطورا لها، هي عوامل من بين أخرى كانت سببا في عدم استقامة الدولة الحديثة كونها في هذه الحال مؤسسة من الصفر ما قد يؤخر وصولها إلى معنى الدولة المراد بكل جوانبه المعنوية والمادية.
إن مؤدى ما سبق في إيجاز غير مخل، هو أن الفرد الموريتاني أيا كانت فئته أو عرقه أو إثنيته لا يملك في حقيقة الأمر ثقافة المواطنة، التي تأتي عبر إرث معرفي وتراكمات مدنية وحضارية، حيث لم يقم نظام دولة في هذه الأرض يضمن نشوء تلك الثقافة، إنما كانت الأرض واقعة بين حضارتين متضاربتين إلى أبعد الحدود، سائبة، استعصت على نفوذهما فكانت ملاذا للمتمردين والمشردين وغيرهم من الجانبين إلى أن جاء المستعمر وفهم الأمر واستنتج إمكانية إقامة بلد فاصل، يمكنه به تحقيق بعض أهدافه في مرحلة ما، لكن في المقابل -ولأن المصلحة تأتي كرها- يمكن أيضا لنا كشعب تجمعه إضافة إلى الديانة هذه الحوزة الترابية المميزة ثقافيا واستراتجيا، أن نقيم دولة تتجاوز قدرتها ودورها أكثر مما تدركه أحسن النوايا اتجاهنا، خاصة وأن المتعلمين منا بدأوا يصلون إلى مرحلة الثقافة وإن كانت بعض الشوائب تطارد أذهانهم، وللوقت دوره في السيطرة على ذلك، وإن كان الأمر أيضا يستوجب تأسيس إستراتجية تعليمية وتأسيس منظومة تربوية حديثة تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الثقافية والدينية بتنسيق تام ودقيق بين كل المؤسسات التربوية، لنخلق بذلك ثقافة المواطنة لدى الفرد الموريتاني، سبيلا إلى إعادة تأسيس الدولة لتحقيق المرجو من ذلك.