أناوزايد والتعليم والصداقة.……..ا

عزيزي زايد محمد، أرفع إلى كريم علمك أنِّي كنت “امْسوعْدَه من الفيس والكتابة” لأسباب تتعلق بالبَصل والبث المُباشر، ومع تداعيات رفع الحصانة وانقلاب النيجر، قرَّرت “سعادو” رسميَّا استخراج بطاقة إقامة على صفحتي.

قرأت المنشور، كيف تُريد أن يكون تعليقي عليه وعلى إبَّاصْ البيس ههه

محطة “البيس” إيَّاها، حيث كنا نلتقي، كانت قبالة دار أهل التومي، وعند حافة “استاسيون” أهل (….)، اسم عائلتي.. خطوتين من طب الحاج، الاتجاه الأول ثانوية الجديدة حيث بدأتُ تجربتي كأستاذة لكم، وقد أمضت الثانوية سنتها الأولى في ملحق الجامعة قبالة الوزارة الأولى الآن، وكانت سَنَة نعيمٍ، أمَّا السنة الموالية (سنة الجَحيم) فكانت مُلاصقة لطب العراق، هكذا كان اسمه قبل أن يتسمَّى لاحقًا المستشفى العسكري ..

لنقذف بالذكريات جُمْلَة!

حصلتُ على الباكالوريا في سن 17 سنة، تزيد شهرا واحدا، اخترتُ التعليم بضربة مزاج وعناد، مُخالِفة إرادة أسرتي التي خالفت بدورها إرادتي في التَّعلم في الخارج، .. في الأقسام التي سأُدرِّس في ثانوية الجديدة، تتفاوت أعمار التلاميذ بين مراهقين و شباب صغار، أكاد أُماثلهم في عمر لا يوحي بالوقار، وأغلب التلميذات يقاربن حجمي الذي لا يوحي بالهيبة، كنتُ أصغر الأساتذة عموما، وبالتالي استَبْعَدتُ أنْ أوفَّقَ في مُمارسة السَّطوة أو “الشخصية” بالمفهوم التقليدي على التلاميذ، فجرَّبت أنْ أكون صديقتهم ونجحت،..

مارسَ عليَّ التلاميذ بداية كل سُبُل “اتْبَرصيگ” ، .. فأثناء الدرس، حين أنقر بالطبشور على زجاج نافذة الفصل طلبًا للهدوء، يَصيح أحدهم “آنكسير وگف، الأستاذة لاهي اتنگز”، فأبتلِعُها.. وأحيانا يُجرّبون المسرح، “إدَوَّسْ واحدْ منهم راصو،.. وفورًا، يتْرابْعوهْ اصحابو في هَرَج مُفتَعل يوخظو بيه شور السَّاحة،.. والطريف، عن التلميذ “الدَّيْسان” يرفِد راصو وإگولهم: حَدْ منكم إعود الگدام يِگدي آمبلانص، وينطلق الموكب Pin-Pon ، .. ومع ذلك لم اشكهم يومًا إلى الإدارة، ولم أطرد تلميذا إلاَّ عن سوء خُلق جارح،.. وبعد عودتهم، أتغافل، وأسألهم عن حال المريض، وعن آمبلانْص أياَّك ما وَحلت بيهم في الزّيره، ثم نضحك وننسجم في الدرس.. كان ظَهيري في امتصاص نُزوعهم لجُنوح المراهقة بعض دروس علم النفس التي سَقاني إيَّاها الأستاذ الجليل الأمير ولد آكاه… كنا نتمازح باحترام، نضحك من القلب، وانهارْنَ مانَّ رافيٍّنْ اعل الدَّرس.. انخلُّوه للحصة الموالية، ونُوحْلو في التَّنكيت والثقافة العامة ورد لمراد.. وارْخَ لله..

صِدقًا، أحببتهم وأحبوني، تبادلنا الكتب والمجلات والأشرطة، والأفكار الباهتة والسَّاطعة، استقبلتُ بعضهم في بيتي وجذبت بعضهم للأنشطة الثقافية، وأسعدُ كثيرًا حين أرمي إليهم بجذوة من مبادئ التَّمرد فيلتقطوها، وكنتُ أعيش وقتها عنفوان العصيان في الفكر والفهم،.. انفتحتُ على الفتيات بالتعبير الحر، تحدثنا في الممنوع بمصطلحاته، الحيض، الحب، عذابات التجاذبات البينية لأولياء الأمور، طلاق الوالدين، التفكك.. إلخ. وأوْدعْنني بعض مَشاكلهن في أُلفة أخويّة من الثقة والتقدير،..
كان الصحفي زايد جزء من هذا المشهد، كان تلميذا في أحد أقسامي، وكان مُلفتا منذ مُقتبل ظهوره، مُشاكسًا، ذكيا، مرحا، محبوبا، و”متأنقا بالفال” على طريقة اهل ابرميل غير المصنَّفة، تقاسمتُ وإيّاه ورفاقه أيَّامًا رائقة من الصفاء والبساطة، من البهجة العذبة وكان ذلك وحده الجانب المبهج في تلك الثانوية-المَقْبرة-المُغَبَّرَة..
أما الجانب المضحك والجاف في غرائب تجربتي تلك، أنّي شهدتُ مسرحيات من الشقاق العبثي بين الإدارة والأساتذة والتلاميذ ،.. نَفَّرتني باكرا من التعليم، بل كرهتني فيه، علما أن العمل في ثانوية الجديدة يومها أقرب لامتحان التَّحمل، فواقعها التعيس يُلامس البؤس،.. حيطان كئيبة مزروعة على رأس كثيب ساخن، لا ماء ولا مرعى ولا مرافق ولا حياة.
وليكتمل النّكد، سلّمت رِقابَتها لمُعلّم أرعن، مهووس بالصّراخ و”اتگرصيص” الأساتذة من غير سبب وجيه، له صوت جُهوري كصوت المحرّك، يُدعى (ع. ق).
حاول ذات نزوة إفراغ قسمي وقد صرت على مشارفه، بحجة أني تجاوزتُ العشر دقائق المسموح بها، وهي ممارسة اعتاد عليها، لكن التلاميذ امتنعوا عن الخروج، وأقاموا عليه حدَّ الازدراء، ومع إصراره صَعَّدوا معه لمستوى تَبادل التهديد والشتائم انتصارًا لي، ولأنهم يدركون أنَّ صعود الرّمل اللّين نحو الثانوية يتطلب تركيب “كاربوتاج” في الأقدام،.. المهم طردوه، فدخلتُ القسم بزهو الفاتحين، كنتُ فخورة بأداء “مليشياتي” الأعزاء، ومن يومها بُسِطت عافية احمد لمحمد في المؤسسة، وأمسكَ عن إفراغ الأقسام وتسجيل الغيَّاب نكاية بالأساتذة …

كان المراقب (ع.ق) ، يتلهَّى مع الجميع بلعبة تَركيعٍ ظالم لم استسغها، فانصرفتْ بي “رگّت إجِّل” إلى مُناوشات معه، مَشفوعة بتظلّمات وشكايات للمدير، ولم يرتَدع، والمدير رجل مسن على أعتاب التقاعد، غائب عمليا، فسطا المراقب على سلطته،.. وعندها توكَّلتُ على الله وسَلكتُ معه مسلك المشاكسة عيني عينك،.. فكلّما مررتُ عليه يَهدر في السّاحة أُسِرُّ إليه في توقير : «Groupe اگروپْ، اصْمكتنا»، وأقصد المولد الكهربائي، فيشتعل!،.. ثم أمرُّ عليه بعد حينٍ، وبكل رَزانة أُخافِت:«اگْرُوووپْ، يَخُوَي اسْكت لايْثرِّيك».

أحيانا يستعينُ (ع.ق) بمُروّضٍ يجاريه في تنمّره علينا،.. مُراقب آخر له خِلقة مُدبَّبة، وبطن منتفخ، حاد الصَّوت،.. ففعلتُ معه الشيء نفسه، فكلّما صادفته يُوزع الضجيج المتنمّر أمام الإدارة، اقتربُ منه قبل أن ألتحق بقسمي، ثم أهمس له بكل أدَب: «Surpresseur اطْفِ».. فيرتعد غاضبا، فأقول له:« ما شهدتُ إلا بما رأيتُ، وانتَ قطعًا مِنتفخْ ولا تِسكتْ!»..
كنتُ وقتها قد قبضتُ ورقة إعارتي لشؤون المرأة، وأمِنتُ شرَّ انتقامهما..
طبعا، أندم اليوم على هذه المشاغبات الصبيانية، والتي كانت جزءً من مرحلة عُمرية غير حكيمة.

أمضيتُ في التعليم سنتين، السنة الأخيرة منهما رسمت تجاعيد على قلبي، فطلَّقت المهنة النبيلة بالثلاث غير نادمة، ومتَّعتُها بالزُّهد فيها،.. درَّستُ مع ثلاثة أساتذة سبق أن دَرَّسوني، فخشيتُ الدوران في نقطة ميّتة، كما عانَيتُ من حسَّاسية للطباشير،..
لم أتخلَّف عن الدَّرس يومًا واحدًا خلال سنتي الأولى من التدريس، وتخلفتُ يومين خلال السنة الثانية، أحدهما بداعي وفاة عمَّتي والآخر خلعتُ فيه ضرسا، وهذا يشهد عليه أستاذي الجليل محمد الحافظ ولد الطلبة.

عزيزي زايد،.. ذلك البعد الإنساني الذي كُنتم أبطاله، كان الذكرى الأجمل في تجربتي القصيرة مع التعليم.
ياللَّ اتردلي من ايدك امنين عدت صحفي اكبير.

تحياتي

الدهماء ريم

شارك هذه المادة