نجحت الخطة ولكنها لم تأتي أكلها، لسبب بسيط جدا، يعود إلى تعقد العلاقة التي تربط بين ولد سيدي و ولد الغزواني، وهي علاقة فاقت في مرحلة ما أواصر الصداقة العميقة، لتصل في مرحلة لاحقة لقطيعة شبه نهائية..
ولكن، لنعد قليلا إلى الوراء…
إسلكو ولد ابهاه أحد رجال الاعمال الشباب، الذين دخلو عالم السياسة من باب حزب تواصل. تابع إسلكو ورفاقه عن كثب الصراع الذي عرفه الحزب منذ بداية مأمورية الدكتور محمد محمود ولد سيدي، قبل أن ينقضوا على مقصورة القيادة بهدوء، وفي غفلة من غالبية الأطراف المتصارعة. فهل كان الأمر مجرد صدفة قذفت بمجموعة من قيادات الصف الثاني ؟ أم أن الأمر كان نتاج تدبير وتخطيط محكمين ؟
دعونا ننظر للملف من وراء الكواليس..
في عام 1991 دخل الاسلاميون المعترك السياسي عبر تأسيس حزب الأمة برئاسة العلامة محمد ولد سيدي يحيى، فضرب ولد الطايع المولود الجديد بيد من حديد، سجنا وتنكيلا وإقامة جبرية، وأذى لم يسلم منه حتى الإمام بداه ولد البوصيري رحمه الله.
انقسم الحزب آنذاك فئتين، فريق اختار العمل العسكري لينتهي به المطاف في الصفوف الأمامية لتنظيم القاعدة، وفريق اختار المعارضة السلمية وهو الذي يهمنا الآن (قمت عام 2013 بتأليف كتاب حول الفريق الأول، وهو متوفر بالفرنسية وقيد الترجمة نحو العربية. طريقة الحصول مجانا على نسخة PDF في التعليق الأول، لمن يهمه الأمر).
لم يمض وقت طويل حتى برز اسم جميل منصور، وهو سياسي بارع لا يوزع المال لأنه لا يملكه، ولكنه خطيب مفوه ومنظر لا يشق له غبار. فاز ببلدية عرفات وتربع عليها رغم أنف الحزب الحاكم آنذاك، وهو الحزب الذي كان في أوج تألقه. أثبت جميل أن المال السياسي والقبيلة والشريحة.. كلها عناصر ثانوية ما دام المترشح يعتمد على خطاب سياسي متوازن وما دام حامل الخطاب يستطيع إيصاله بطريقة مقنعة.
دخل الاسلاميون حملة ولد هيداله بقوة وأصبح وجودهم قاطرة المعارضة في البلاد، واستطاع المرشح الحصول على المرتبة الثانية في انتخابات رئاسية طبعها التزوير واستخدام هيبة الدولة من أجل فرض مرشح الحزب الحاكم.
بعد سقوط نظام ولد الطايع استطاع الإسلاميون خوض النيابيات تحت يافطة اسموها “الاصلاحيون الوسطيون” تمكنو من خلالها من الدفع ببعض قياداتهم نحو البرلمان، ثم بحركة بارعة شكلو تحالفا مع فرسان التغيير، الذين عادو لتوهم من المهجر، ودفع الكشكول الجديد بالمرشح صالح ولد حنن نحو الانتخابات الرئاسية..
وهنا تشكل حزب تواصل، الذي رفض جميع رؤساء موريتانيا الترخيص له، ليتم الإعتراف به رسميا في بداية مأمورية المرحوم سيد محمد ولد الشيخ عبد الله، وترأسه جميل بشكل سلس لمدة مأموريتين متتاليتين عرفتا مستوى عاليا من الانضباط الحزبي، حيث كانت الخلافات لا تطفو إلى السطح إلا نادرا، وقلما تخرج للعلن.
حالة الوفاق هذه انحسرت غداة المؤتمر الثالث العادي للحزب سنة 2018 والذي دفع بالدكتور محمد محمود ولد سيدي نحو القيادة، في حركة استباقية ذات مغزى استراتيجي عميق. حيث أن الرئيس الجديد ينتمي لنفس الوسط الاجتماعي لقائد الأركان آنذاك، الجنرال محمد ولد الغزواني.
كالعادة، كان قياديو التيار الإسلامي من أوائل من أحسن قراءة الخارطة السياسية وتكهنوا بفشل الرئيس ولد عبد العزيز في فرض العقيد الشيخ ولد بايه كخلف له (راجع دفاتر_الحملة، الرابط في التعليق الثاني)، وهو ما سيحمله مرغما على مساندة المرشح ولد الغزواني.
نجحت الخطة ولكنها لم تأتي أكلها، لسبب بسيط جدا، يعود إلى تعقد العلاقة التي تربط بين ولد سيدي و ولد الغزواني، وهي علاقة فاقت في مرحلة ما أواصر الصداقة العميقة، لتصل في مرحلة لاحقة لقطيعة شبه نهائية، لعل المقام لا يصلح للاسترسال فيها ، ولكن يبدو أن جل قياديي تواصل لم يكونوا على علم بهذه التفاصيل، التي سيكون لها أثرها البالغ على صيرورة الحزب كما سنرى لاحقا..
وهكذا وجد قياديوا تواصل أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه، حيث نجحوا في فرض الدكتور ولد سيدي رئيسا للحزب، وفي نفس الوقت وصل المرشح الذي راهنو عليه لسدة الحكم (طبعا مساندتهم للمرشح سيدي محمد ولد بوبكر كانت فقط لذر الرماد في العيون، حيث أنه حتى ولد بوبكر نفسه كان يدرك أن حظوظه في النجاح شبه معدومة، وإن كان يراهن على شوط ثان وهي فرضية كانت مطروحة بشدة).
وهكذا انقسم حزب تواصل لجناحين، جناح الصقور الملتف حول الرئيس ولد سيدي والذي يدعو لمعارضة ناطحة لنظام ولد الغزواني، ومن أبرز أعضائه السالك ولد سيدي محمود وأحمدو ولد الوديعة وعبدوتي ول عالي ؛ وجناح الحمائم ذو التوجه الناصح، والمتكون أساسا من جميل منصور ومحمد غلام ولد الحاج الشيخ والشيخاني ولد بيبه.
طيلة مأمورية الدكتور ولد سيدي ظل هذا الصراع الطابع الأبرز للمرحلة، والمسؤولية في ذلك ترجع حسب وجهة نظري للرئيسين ولد سيدي و ولد منصور، حيث لم يقم ولد سيدي ببذل أدنى جهد من أجل تحسين علاقته الشخصية مع رئيس الجمهورية وترك خلافه الشخصي معه جانبا، كما أن جميل قضى جل مأمورية ولد سيدي وهو يعبر بشكل علني عن مواقف مغايرة تماما للموقف الرسمي لتواصل، ناهيك عن أنصاره الذين يرددون علنا اشتياقهم لفترة رئاسته، ومللهم من ولد سيدي الذي لا يحسن فن الخطابة ولا يتمتع حسب قولهم بكاريزما جميل منصور.
وصل الإحباط بولد سيدي لدرجة إعلان عدم رغبته في مأمورية ثانية، تاركا الباب مفتوحا لرئيس جديد، وهي فرصة أحسن فريق ثالث استغلالها بذكاء وفطنة، وهو فريق حافظ على حياده طيلة مأمورية ولد سيدي، ومن أبرز أعضاءه رجال الأعمال أحمدو ولد أمباله وإسلكو ولد ابهاه، وعمدة توجنين محمد الأمين ولد شعيب والنائب محمد المختار ولد الطالب النافع، حيث عملوا على الدفع برئيس جديد من خارج مربعي الصراع ووجدو ضالتهم في النائب مادي ولد سيد المختار، وهو في الحقيقة قيادي تواصلي شاب ومعروف في الاوساط الحزبية، تم التمديد له في عضوية البرلمان وقاد فريق الحزب في الجمعية الوطنية وتولى نيابة رئيس البرلمان، لكنه غير معروف في الساحة السياسية الوطنية احرى الإعلامية.
حال وصوله لرئاسة الحزب أعلن قياديان استقالتهما من هيأتين حزبيتين كانا يشغلان عضويتها، وهما السالك سيدي محمود عضو المكتب السياسي وعبدتي ول عالي عضو مجلس الشورى الوطني، وهو ما يضع القيادة الجديدة أمام تحد واضح، في ظل الاستقطاب الذي تشهده الساحة السياسية غداة انتخابات برلمانية وبلدية سابقة لأوانها.
ويبقى الناخب التواصلي عرضة التجاذبات بين هذا وذاك، وهو الذي يدرك تمام الادراك أنه مسؤول عن تصويته، الذي سيقوم به من وراء الستار، وسيسأل عنه يوم لا ينفع مال ولا بنون.
كما أن الحزب مطالب بتوضيح موقفه السياسي بشكل أقل ضبابية، في ظل مؤشرات تشير إلى عزم رئيس الجمهورية على الترشح لمأمورية ثانية.
فهل ينجح الفريق الجديد في حسم النزاع وكسب ود الفريقين والسير بالحزب قدما ؟ أم أن تصفية الحسابات ستكون الطابع الأبرز للمرحلة القادمة ؟ الأشهر القليلة القادمة كفيلة بحمل الإجابة…
يتواصل..
الحلقة القادمة : كواليس الانقلاب
Hacen Lebatt