نص “الرموز الوطنية” وضرورة المراجعة

عندما شعر المرحوم المختار ولد داداه بتآكل قواعد حكمه وصرح لبعض مناصريه باستعداده للتنازل عن السلطة وردوا عليه -كما كان متوقعا-برفضهم الفكرة جملة وتفصيلا، اختار الرجل المخضرم سجل الدعابة فرد بعبارته الخالدة :”لا تفهموني فهم أهل…” وأتبعها ب-“الحكم باطعيمتو…” ؛ ورغم ذلك لم يقبل دعوات “الترميز” التي ألحت بها عليه بطانة كان رجل الدولة يعرف مستوىات وعيها الوطني ومبررات مواقفها وآفاق طموحاتها.
سار الرؤساء الموريتانيون المتتاليون، على اختلاف مستوياتهم الفكرية وشرعية أحكامهم ورغم الصعوبات الميدانية الكبيرة التي واجهت بعضهم، على خطى رئيس البلاد الأول فيما يتعلق برفض دعوات “التمليك” من لدن حاشية سياسية دأبت على الاندفاع التلقائي خلف الممسك بمقود الحكم.
لقد خسرت البلاد فرصة الرهان الديمقراطي الأولى خلال الاستحقاقات الرئاسية لسنة ١٩٩٢، نتيجة لحملة تزوير انتخابي رسمية ممنهجة منقطعة النظير .
وأضاعت النخبة السياسية الوطنية فرصة التحول الديمقراطي الثانية سنة ٧..٢ لنفس السبب (تقريبا) بفارق أن ضغط القوى الحية المطالبة بالدمقرطة والإصلاح، فرض على المرشح الرسمي يومها، المرحوم سيدي ولد الشيخ عبد الله، خوض غمار شوط ثان مرير قبل الإمساك بدفة السلطة في البلاد.
لقد شكلت المقولة “آن نعرف اعلني أشنع اللاهي نجبر غدا، إلين انغادر السلطه، هاذي الناس اللي تتباك اعلي اليوم” رد رئيس البلاد السابق السيد محمد ولد عبد العزيز على “الحسرة العارمة” داخل صفوف حكومته على إمكانية مغادرته السلطة، ولم يرضخ الرجل الصادق لطلب مكتوب وموقع من طرف ثلثي أعضاء البرلمان آنذاك “يلحان” فيه على ترشيحه لمأمورية ثالثة غير دستورية، كما لم تزده الشهية الخطابية الهستيرية للأبواق “الحربائية” والمسيرات الشعبية “العفوية” والحاشدة في ربوع البلاد، إلا تصميما على احترام مقتضيات الدستور خاصة مواده المحصنة. لقد شكل هذا الرفض المتكرر فرصة أضاعتها النخبة السياسية عموما للوصول بتجربتنا الديمقراطية إلى العتبة النوعية الأخيرة -التي وصلت إليها دول في شبه المنطقة- والمتمثلة في حرية الترشيحات لمنصب رئيس الجمهورية والحياد المطلق للإدارة العمومية خلال الحملات الانتخابية و أثناء عمليات الاقتراع.
إن أغلبية برلمانية أجازت أمس -دون أدنى تردد نقدي- المشاريع موضوع التحقيق القضائي اليوم حول “العشرية”، رغم اللغط الذي أثاره بعض هذه المشاريع وقتها، ووقعت -بثلثيها- عريضة تطالب بمأمورية ثالثة للرئيس السابق خرقا للدستور وتحمست بعد ذلك بقليل لإنشاء لجنة برلمانية لمحاكمة نفس الرئيس السابق، لن تتردد غدا في تمرير مشروع قانون “الرموز الوطنية” دون نقاش أو تعديل وبفارق مريح مقارنة بالأصوات النيابية (الواعية) القليلة التي تطالب بإلغاء مشروع القانون المذكور في نسخته الحالية على الأقل.
إن صون المكتسبات وتعزيزها في مجال الحريات الفردية والجماعية يعتبر صمام أمان لا غنى عنه وركيزة أساسية من ركائز الأمن والاستقرار ومركبة جوهرية من مركبات الحكامة الرشيدة. فعلى سبيل المثال، ساعد المستوى الجيد لحريتي التعبير و التظاهر خلال “العشرية” من تجنيب موريتانيا ويلات “الربيع العربي”، عندما كان بعض داعمي النظام الحالي يتظاهرون يوميا على وقع “إرحل! إرحل! إرحل!…”؛ حيث كان خط الدفاع الذي حدده وأمر به الرئيس السابق هو عدم تدخل قوى الأمن – أو حتى ظهورها على مسار التظاهر!- لفض “المليونيات الربيعية” إلا في حالة واحدة : عندما يتم المساس بأمن الأشخاص أوالممتلكات العمومية أو الخصوصية. وعندما ألح عليه بعض معاونيه بضرورة اتخاذ قرارات قمعية نظرا لتجاوز “الربيعيين” كل الحدود ذما وقدحا لشخص الرئيس، رد عليهم :”على من لايستطيع تحمل النقد اللاذع المساعد في استتباب أمن البلاد واستقرارها، أن يستقيل ويشتري قطيعا من الغنم ويقيم تحت خيمة في البادية، فلن يسمع هناك كلمة تؤذيه”… لم يشتك بعدها موظف سام واحد من الأذى اللفظي للمتظاهرين على كثرتهم وتعقيد مطالبهم، وتجاوزت موريتانيا بأعجوبة حيرت الكثيرين مطبة “الربيع العربي”، هذه المطبة التي أودت بدول عربية أكثر عدة وعتادا من بلادنا.
في عصر عولمة ودمقرطة وسائل الاتصال، لدي قناعة شخصية أن رئيس الجمهورية الحالي السيد محمد ولد الشيخ الغزواني لن يقبل، في الظرف الصحي والاقتصادي والقضائي الحاضر، بأن تتلاعب باسمه وحكمه “نخبة” سياسية مردت على محاولات “الترميز” و”التمليك” و”التأليه” منذ وقت ليس بالقصير، كما أنه لن يذعن لما رفضه الرؤساء الموريتانيون المتلاحقون وكل الرؤساء المنتخبون عبر العالم ؛ وسيعطي أوامره بسحب نص “الرموز الوطنية” المثير للجدل بغية مراجعته إملائيا وتقويمه أخلاقيا وسياسيا ودراسة جدوائيته القانونية دراسة متأنية و بروح الإجماع…
إن أخشى ما أخشاه أنه بتمرير هذا النص المثير، تكون البلاد قد تحولت -دون أن تشعر- من نظام رئاسي إلى نظام برلماني دون الرجوع في ذلك إلى الشعب ؛ لقد شكل إلغاء “مجلس الشيوخ” تعزيزا كبيرا لسلطة البرلمان، كما شكل تأسيس “اللجنة البرلمانية -دون تدخل من السلطة التنفيذية حسب الناطقين باسمها!…-خطوة ثانية على طريق “برلمنة” نظام الحكم في البلاد. وبتشكيل “محكمة العدل السامية” عزز البرلمان الحالي قبضته على زمام الأمور، حيث لن يعود بوسع أي وزير أو مسؤول كبير رفض إملاءات الغرفة البرلمانية التي تستطيع تلطيخه ومحاكمته والزج به في غياهب السجون، “للا أو لنعم”… وبتمرير مشروع فانون “الرموز الوطنية” -لا قدر الله- يحول البرلمان منصب رئيس الجمهورية من حامي الرموز الوطنية والحريات وتوازن السلط إلى رمز وطني تجدر حمايته بقوة القانون، مما يجعل منه “ملكا منتخبا”، ويفسح المجال أمام سطو البرلمان على السلطة التنفيذية. وأخطر ما في الأمر أن كل هذه الإخلالات بتوازن السلط لصالح السلطة التشريعية، تمت دون سن أي شكل من أشكال الشروط المؤهلة الدنيا لولوج الغرفة البرلمانية…
في تصوري أن نظاما رئاسيا ديمقراطيا قويا أكثر ملاءمة للتنوع الكبير في صفوف شعبنا وحداثة عهده بالدولة العصرية والديمقراطية، خاصة في ظل ضعف أداء منظومتنا التربوية، إلا أنني لست “مناوئا” للنظام البرلماني، إذا تم تبنيه رسميا بعد استفتاء الشعب بهذا الخصوص وتم استحداث معايير موضوعية ومعاصرة لاختيار نواب قادرين على الترفع عن منطق العشيرة والشريحة والفئة والجهة والمصلحة الضيقة…، للاضطلاع بالدفاع عن القيم العليا والمصالح الحيوية الجامعة للشعب الموريتاني.
ملاحظة: بوسع وزير العلاقات مع البرلمان والناطق الرسمي باسم الحكومة وقتها أن يشهد -فالشهادة لله تعالى- أنه عندما ربط البرلمان مرة اعتماد الميزانية العامة للدولة بزيادة رواتب النواب، أعطى الرئيس السابق أوامره لهذا الوزير بإشعار البرلمانيين أنه في حال تماديهم في موقفهم، فإنه سيتم غرفتهم خلال أربع وعشرين ساعة ؛ فتم على إثر ذلك تمرير الميزانية كما هي ودون ضجيج أو تذمر…

شارك هذه المادة