ولدأباه: اختطفته أشباح المنايا وهو يقاتلها بأنوار القناعة… في قعر أحد آبار الموت

في مقتبل العمر، مكتمل العقل، يرفث في ثراء أخلاقي فاحش، يوسفي الشكل، نوراني الوجه، فصيح اللسان، حافظ لكتاب الله، عالم فذ وله في ذلك سر وميراث ممتد على طول ممرات التاريخ..
خرج منذ أسابيع يطلب دخلا ماليا ليوفر لوالدته و شقيقاته _وهو وحيدهن_ ما يمتعهن به من رغد عيش كريم..
تتلألأ آمال العمر في عينيه الساحرتين، فأخذ ينقش بيديه الكريمتين أحلامه على صخر الوهم في صحاري تيرس بحثا عن حصى ذهب يغزل بها خيوط سعادة لجيد والدته، بعد أن عجز عن اختراق بوابات التشغيل في أرض الظلم هذه و المحسوبية، تتراقص في ذهنه الصافي صور أقرانه الذين أسعفتهم القبيلة و الجهة في ولوج سوق العمل متحسرا على حظه الذي رماه إلى كبد المهالك يطارد أحلامه بين أمواج سراب الوهم قبل أن تتلاطم اليوم على جسده الطاهر أمواج الرمل في غياهب المجهول، فترديه شهيدا في ساحات الشرف، مجاهدا عتو الظروف و قاهرا كل ما يهدد شرفه و قناعته..
ابن خالتي الشابة الجميلة اختطفته ظهر اليوم أشباح المنايا وهو يقاتلها بأنوار القناعة و الطيبة و الاستقامة في قعر أحد آبار الموت التي تحدو كل يوم عشرات الشباب إلى ضفاف العالم الآخر في صمت مريب و مرعب من المجتمع و كأن من يتساقطون ليسوا خيرة شبابنا الذين راحوا ضحية الغبن و البطالة و قسوة الظروف المعيشية ..
لا أحد سيشعر بعمق جراح قلب أمرَيمْ الأم التي أنجبت و ربت و درست و أنتجت للبلد بطلا مفتول العضلات، عالي القدرات، متعدد الخبرات، فائق الذكاء، حاد البصيرة، ليكافئ جهدها باستقبال جثمانه ملفوفا بأكفان أحلامهما الكبيرة و حكاياتهما الكثيرة و ذكريات زمنهما القادم ..
أين سترمي مخططات عرسه التي حاكت منذ سنوات عمره الأولى في ذهنها، و مواصفات عروسه التي بحثت عنها في وجه كل قريبة وزائرة وهي تتخير له أجملهن و أطهرهن و أكثرهن ثقافة!؟
من سيشعر بحرائق روحها التي اندلعت في قلبها وهي تنكس أعلام عمره أعلى قلاع أحلامهما ؟!
من سيمنحها منديلا سحريا يجفف دموعها المنهمرة من شلالات الخيبة و المأساة و الفقد و الانكسار؟!
كيف ستمحو مخطط المنزل الذي كانت ستزف إليه وحيدها وعروسه وتستبدله في هذه اللحظات الصادمة برسم ضريحه وهي تفكر في المكان الأنسب لدفنه؟!
قسوة هذه الحياة و ذبولها ترسمها بكل آلام الكون دموع الثكالى..
لقد أنجبت يا امريم فارسا في بلد غير ذي زرع يطيل أسوار الهزيمة أمام أبطاله و يشرع بواباته أمام المختلين و الجبناء، فلا مآل لنا إلا الرحيل و الشجاع من شد رحاله باكرا نحو مصيره وواجهه ببسالة حتى تطمئن نفسه و تستجيب لنداء خالقها عائدة إليه راضية مرضية فتدخل في جنته بإذن الله، كما نتمنى ونتصور أن فقيدنا عبر خلال بوابات رحمة الله و اغتسل من أنهار النهاية عن درن الحياة و مرارة العمر و فناء الدنيا..
رحم الله الشهيد الدين ولد أباه ولد الدين وحيد أختي وبنت خالتي امريم بنت حياني و ربط على قلبها و الهمنا الصبر و فرج عنا وعن كل مكروب إنه ولي ذلك والقادر عليه.

إنا لله وإنا اليه راجعون راجعون

لعزيزة البرناوي

شارك هذه المادة