مؤتمرعزيز: بالون السياسيةولغم الجهوية

حضرت البارحة المؤتمر الصحفي الذي نظمه الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في المقر الجديد لحزب الرباط الوطني في مقاطعة لكصر، استمر المؤتمر الصحفي نحو ساعتين ونصف، أجاب الرئيس خلالها على جل الأسئلة التي طرحت عليه بهذه الطريقة أو تلك، سوى سؤال، تكرر خلال المؤتمر الصحفي، كما تكرر في مؤتمرات سابقة، لكنه ظل معلقا دون جواب.
مساء 20 ديسمبر 2019، حضرت أول خرجة إعلامية نظمها ولد عبد العزيز منذ تصاعد الخلاف مع خلفه الرئيس محمد ولد الغزواني، وكانت في منزله بمقاطعة لكصر، وكتبت – حينها – تعليقا عليها تحت عنوان: “خرجة عزيز: بالون السياسة وقنبلة الفساد”، البارحة زاد ولد عبد العزيز في “نفخ بالون السياسية” فقد ظهر تحت يافطة حزب سياسي – بعد مسار طويل من المحاولة – وغُطيت خلفيته بصوره المكبرة، و”إنجازاته الدبلوماسية”، كما كرر أكثر من مرة – خلال المؤتمر الصحفي – إصراره على ممارسة السياسية ولو كلفه ذلك السجن، بل وحتى تقديم روحه.

وبدل التركيز على “قنبلة الفساد” – كما فعل سابقا – فضل هذه المرة إبراز “لغم الجهوية”، وتصنيف الصراع الدائر في إطاره، فيما اكتفى بالتلويح بـ”قنبلة الفساد”، مع تلمس “أزرار جديدة” تقترب أكثر من الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني.

انطبع المؤتمر الجديد بـ”الخلفية العائلية”، في ظل “تطاير” آخر الرفاق، وانخناسهم واحدا تلو الآخر خلال الأشهر الماضية، بدءا بيجل ولد هميد – شفاه الله وعافاه – مرروا بسيدنا عالي ولد محمد خونه، وإسلك ولد أحمد إزيد بيه. فباستثناء الوزير الشاب محمد ولد جبريل، كانت الأوجه الحاضرة في المقاعد خلفه “جديدة” على الظهور في الأنشطة العامة، كما سجل غياب رئيس الحزب عن منصة المؤتمر الصحفي.

بدت الخطوة، كما لو كانت محاولة للحصول على “حماية”، في صراع صرح في أحد الإجابات بأنه “استهداف قبلي وجهوي”، وتعزيز لـ”بالون السياسية” بلفت الانتباه لـ”خارطة ألغام” ذات تأثير بالغ في مسار الأحداث في البلاد، وهي ألغام بدأت مؤشرات استخدامها مبكرا، وطغت على “صراع” التعدين في منطقة تيرس الزمور، وأطلت برأسها من خلال الحوار المتشنج – والهادئ في الآن ذاته – بين رئيس البرلمان الشيخ ولد بايه، والرئيس محمد ولد الغزواني خلال زيارة الأخيرة للزويرات بداية نوفمبر 2020، كما يعتمل الموضوع – بصمت – في الدوائر العسكرية والأمنية، وبعض دوائر النفوذ العميق.

يجد ولد عبد العزيز صعوبة كبيرة في الربط بين صور متناقضة، بعضها يحاول الظهور به، وبعضها رسمه مساره خلال حكمه، وما أعقبه من تحقيقات وملاحقات، أولاهما هي صورة “الرمز الوطني” الذي ضحى سابقا في سبيل الوطن، وأنقذه من الضياع على مرتين، وبناه من خلال مشاريع ضخمة، وتحركه الآن الغيرة عليه لـ”إنقاذه” من “مجموعات” تكالبت عليه لإرجاعه إلى الوراء، وهو في سبيل هذا الهدف مستعد للتضحية بكل شيء، حتى بروحه، وإذا كانت أسرته أو المقربين منه لا يريدون تحمل تبعات هذا الموقف، فلهم الحق في اختيار مسار آخر.
والصورة الأخرى، هي صورة “الناشط العشائري والجهوي”، الذي يشكو “الاستهداف الشخصي” من نشطاء جهويين وعشائريين آخرين، نجحوا في استغلال الدولة لتجميد ممتلكاته، وإيقاف راتب تقاعده، وحتى التعويض الذي يستحقه كرئيس سابق لم يصرفوه له.

أما الصورة الثالثة، والتي يتحاشى الظهور بمظهرها رغم محاصرتها له، فهي صورة المتهم بالفساد بعد أكثر من عقد في سدة الحكم (يحصل هذا كثيرا حول العالم)، ويجب – في الظروف الطبيعية – أن تكون أولويته إبراز أدلة براءته، أو مواجهة ما يترتب على ذلك من عقوبات، لكنه يفضل – دائما – الهروب إلى الأمام، والانشغال بـ”نفخ بالون السياسية”، أو التحذير غير المباشر من الاقتراب من “قنبلة الفساد”، ويبدو أن تحذيراته تجد آذانا صاغية لدى الجانب الآخر.

يكشف حديث الرجل في هذه النقطة تحديدا، أن فريق دفاعه لم ينصحه، أو أنه لم يتنصح، فهو – على ما يبدو – يتصور أنه يكفي أن يقول إن أمواله ليست متأتية من الأموال العمومية، ليقطع ببراءته، وبإخراج أمواله من دائرة الشبهة، في حين أن مجرد اعترافه بوجود أموال “طائلة” – أو كثيرة كما فضل أن يعبر – بحوزته، قد يكون – وحده – كافيا لمساءلته عن مصدرها، وتوجيه تهمة “الإثراء غير المشروع له”.

قطع ولد عبد العزيز البارحة خطوة إلى الأمام، واقترب أكثر من “كسر” الحاجز الذي كان يبقيه على الرئيس الحالي ولد الغزواني، فتحدث عن “نفخ” دراسات المشاريع في الجيش، وعن نقصه له بمئات الملايين من الأوقية، كما ألمح إلى اتهامه “ببيع الذخيرة” من خلال تبرئة نفسه من الموضوع.

كان الرجل “عصبيا جدا”، طيلة المؤتمر الصحفي، فضرب الطاولة بيده عدة مرات، وهدد الإعلاميين بطرد 50% منهم إذا لم يصمتوا، وأخبر آخر أن الباب مفتوح للمغادرة إذا لم يصمت، كما انعكست هذه العصبية على مساعديه، فكان يهددون، ويتعاملون بعجرفة مع الحضور.

يشكل المؤتمر الصحفي البارحة، محطة من محطات معركة “كسر عظم” بين رجلين يعرف كل منهما الآخر حق المعرفة، ويراهن كل واحد منهما على الزمن لكسب نقاط على حساب الآخر، فولد عبد العزيز يراهن على جعل قضيته قضية سياسية، ويعتبر أن بدايتها عودته للبلاد، وترؤسه لاجتماع المكتب التنفيذي لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وأن محطاتها الرئيسية هي مضايقته سياسيا، ثم حل حزب الوحدوي رغم حكم المحكمة العليا، ثم المضايقة المتجددة لحزب الرباط، ومنها تجميد مقره في لكصر لساعات قبل رفع التجميد عنه، في قرارات يستغرب أن تصدر عن القضاء خارج الدوام الرسمي، إثباتا، ونفيا، وأكثر غرابة من ذلك أن تتم دون علمه، أو افتياتا عليه.
أما السلطة و”تياراتها” فتريد تصوير المسار كمسار قضائي صرف، عنوانه محاربة الفساد، وبدايته تحقيق اللجنة البرلمانية، ومحطاته الرئيسية تحقيق الشرطة الابتدائي، وما كشفه من “نهب ممنهج” للمال العام، ثم مرحلة الاتهامات العشر، وهو الآن في محطة الرقابة القضائية تحت سلطة قطب التحقيق في الجرائم الاقتصادية.
وفي الحقيقة، يعكس تعاطي السلطة مع الملف منذ بدايته، ترددا وارتباكا، يشي بوجود آراء، أو مقاربات داخل أروقتها، تتفاوت بين التصعيد، والتهدئة، والسير بالملف إلى نهايته، أو “إماتته” ببطئ.
وقد منحت هذه الوضعية الرئيس السابق فرصة حجز في مجال الفعل، وحول تصرفات السلطة تجاهه كما لو كانت ردات فعل على تصرفاته، فمع الزمن يتكشف استمرار الفساد، وربما بوتيرة أسرع، وتظهر الانتقائية فيه، وتفقد “محاربة الفساد” مصداقيتها، ويتآكل “الإجماع”، وتُحبط “الآمال”.

(احمدمحمد المصطفى)

شارك هذه المادة