اكتنفت حادثة مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي التي أعلن عنها يوم الثلاثاء الماضي غوامض ملحوظة، ففي حين قال الجيش التشادي إن الرئيس «لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يدافع عن وحدة بلاده على أرض المعركة» خلال قتال مع المعارضة المسلحة خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي (رغم أن الحكومة كانت قد أعلنت قبل يوم واحد عن قتلها 300 من المتمردين وإصابة خمسة فقط من جنودها) فإن 30 حزبا تشاديا معارضا وصف أمس الأربعاء ما حصل بـ«عملية انقلاب» وهو ما كانت مجلة «أفريكا بريفينيغ» قد طرحته أول أمس.
يضيف توقيت مقتل ديبي عنصرا آخر من الإثارة على الحدث، فوفاته جاءت بعد يوم واحد من تنصيبه رئيسا للمرة السادسة لاستكمال حقبة حكم فيها 30 عاما منذ انقلابه هو أيضا على حسين حبري حين كان قائدا للجيش في عهده، لكنّ تنصيب ابنه يعدّل من فرضيّة الانقلاب، وإن لم يلغها تماما.
حسب رواية موقع الصحافة الاستقصائية الفرنسي «ميديا بارت» عن مصادر مقربة من داخل القبيلة المتنفذة التي ينتمي إليها أركان السلطة الحاكمة، فإن ديبي لم يصل إلى جبهة القتال وأنه «قتل على يد حاشيته» فالقبيلة المذكورة منقسمة بشدة بحيث أن أبناء عم ديبي شنوا هجوما في كانون الثاني/يناير 2019، وأنه لم يفشل إلا لأن فرنسا، التي تعتبر الدولة الراعية للنظام التشادي، أرسلت قوات خاصة أفشلت الهجوم.
ما قصدته الأحزاب التشادية، سواء تأكدت رواية القتل على يد الحاشية أم لم تتأكد، هو أن الجيش لم يتبع الدستور الذي ينص على أنه في حال شغور السلطة يحلّ رئيس البرلمان محل الرئيس بشكل مؤقت، وتجري انتخابات رئاسية جديدة خلال 45 إلى 90 يوما، وبانقضاض الجنرال الشاب محمد إدريس ديبي (المشهور بمحمد كاكا) على السلطة، المسؤول عن «المديرية العامة لأمن مؤسسات الدولة» على السلطة، يهزأ العسكر، كالعادة، بالدستور الذي قاموا بحياكته.
أحد العناصر التي تضيف إلى غموض ما حصل هو علاقة فرنسا بكل ما حصل، فالرئيس القتيل كان تابعا / حليفا مخلصا لباريس، لكن مقاتلي «جبهة التناوب والوفاق» الذين كانوا يقاتلون في ليبيا لدعم الجنرال خليفة حفتر، كانوا أيضا يتلقون دعما فرنسيا وإماراتيا وروسيا، وقد شاركوا في حملته للسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس عام 2019، فهل كان تحرّك المتمرّدين التشاديين هو نقلة خطّط لها حفتر وحلفاؤه للانتقام من تخلّي فرنسا عنه بعد انتخاب رئيسي مجلس رئاسي وحكومة جديدين لليبيا، أم كان هجوم المتمردين بتغطية فرنسية؟
ما تشير إليه التصريحات الفرنسية الجديدة حول أحداث تشاد هو استمرار باريس بتقديم تغطية للنظام الدكتاتوري، فقد دعا وزير الخارجية جان إيف لودريان إلى «انتقال عسكري محدود المدة» وغرّدت وزيرة القوات المسلحة الفرنسية عن «إقامة عملية انتقال ديمقراطي» وهي تصريحات لا تقدم جديدا في الموقف وتعطي شرعيّة لاستلام محمد كاكا للسلطة بعد أبيه، ويتناسق هذا الموقف الفرنسيّ الخارجيّ، بالضرورة، مع مواقف فرنسا الداخلية، التي عبّرت عنها مواقف الرئيس إيمانويل ماكرون ووزير داخليته، والقوانين الجديدة التي تم تشريعها ضد المسلمين، ولإعطاء صلاحيات أكبر للقوى الأمنية.
من المتوقّع أن تؤدي أحداث تشاد الأخيرة إلى تطوّرات مهمة في الجنوب الليبي، فالرئيس التشادي الراحل كان يقف موضوعيا مع الحكومة المركزية الليبية بحكم أن قوات المعارضة كانت تعمل بالتنسيق مع حفتر، كما أن «المجلس الانتقالي» والحكومة السودانيين سيشعران بقلق من إمكانيات حدوث فوضى على حدودهم الغربية، فتشاد تتاخم إقليم دارفور الذي يعاني من حالة اضطراب أمني كبير.
الحقيقة الأكيدة، من بين كل هذه التطوّرات المفتوحة، أن الرئيس قد مات وأن ابنه صار الرئيس الجديد… إلى أن يحدث انقلاب جديد!
-القدس العربى-