مهنة التدريس مهنة المتاعب مع أني من المغرمين بها، لا أرتاح لشيء كارتياحي للوقوف أمام الطلبة والكتابة على السبورة، ومطارحة الآراء حول درس معين، وكم أفرح عندما تصلني أسئلة أو معايدات على البعاد من طلبتي بجامعة الملك سعود وجامعة الإمام، أو من المدرسة العليا للتعليم، فالشهادة التي يدلي بها التلميذ لمدرسه، ومشاعرُه الصادقةُ حين يلقاه أو يراسله، أجد فيها أجمل تكريم وأوفى عهد.
إلا أن الجانب الطريف من العلاقة يتمثل في لقاء الطلبة بعد طول تنَاءٍ، وانقضاء عقود؛ العام 2004 كنت في طريقي إلى الوطن، لبثت أسبوعا بالمغرب، وحين المغادرة من مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، افتقدت إحدى حقائبي التي أودعت في المخزن، رغم احتفاظي بوصل الإيداع، بحثت وساءلت دون جدوى، وكدت أفوت الرحلة، وأثناء تجوالي وحيرتي حياني أحد المسافرين بحفاوة زائدة، كان أربعينيا فارع الطول، كث اللحية يرتدي بذلة سوداء أنيقة، رددت التحية، وكأنه لاحظ القلق المرتسم على وجهي، فسأل:
-أستاذة، ماذا يشغل بالك؟
فاستغربت من معرفته مهنتي، وسردت قصة الحقيبة، تناول الوصل واتجه جهة المخزن، وكنت أعد الثواني وأنا أرى المسافرين يزنون الحقائب ويصطفون أمام بوابة السفر.
وحين ضاقت فسحة الأمل، أقبل الرجل يجر الحقيبة جرا والظفر يتراقص على عينيه، شكرته بالغ الشكر، وعبرت عن أسفي على ما تكلف من جهد ووقت في البحث، فقال بهدوء: حقك علي، “من علمك حرفا فهو مولاك”، وجر الحقائب إلى الميزان وأكمل لي الإجراءات.
ومن غريب الصدف أن يكون مقعدي في الطائرة محاذيا لمقعده، وحين تأكدت أنني اعتنقت الرحلة، وتنسمت ريح الوطن-لولا أن تفندوني- سألني جاري بأدب جم:
- أستاذة أعتقد أنك لم تتعرفي علي بعد، أنا محمد الأمين عريف الفصل في السادس الثانوي العلمي، أيام كنت تدرسينا، وقفزت صورة ذلك الفتى النحيل الطويل الذي كان عريف الفصل، ومن يتولى عني النداء بأسماء الطلبة في القاعة المكتظة، وينظف السبورة ويجلب الطباشير، وكم هللتُ حين اطلعت على اسمه في أوائل الناجحين لدورة الباكالوريا تلك السنة.
اختلفت الصورة فقد أصبح رجلا مكتهلا ممتلئ الجسم، وخط الشيب مقدمة رأسه، ولحية كثة تملأ صدره، فقلت: -لقد تغيرت كثيرا يا محمد الأمين، كم أنا سعيدة بلقائك! لا يمكن أن أنسى طلبتي المتميزين.
ابتسم وعلى شفتيه ظلال كلمات، ولو أراد القول لوجد ما يقول، ومرت لحظة صمت تخيلتُ أنه تذكر فيها قول الشاعر:
وَمُـنْـكِـرَةٍ شَخْصِي وَقَـدْ حَالَ بَيْنَنَا ** سِنُــونَ لَـهَـا فِـينَا جَمِـيـعًـا تَـصَـــرُّفُ
فَـقَالَـتْ سُـؤَالًا كِــدْتُ أَبْـدَؤُهَـا بِـهِ ** أَهَـا أَنْتَ ذَا عَمْرُو الَّذِي كُنْتُ أَعْرِفُ؟
فَقْلْتُ: نَعَمْ -لَا، صَادِقًا فِي كِلَيْهِمَا ** وَأَنْشَـدْتُ بَـيْـتًـا وَالْـمَــدَامِــعُ تَــذْرِفُ:
“تَغَـيَّـرتِ الْأَحْــوَالُ مَا أَنَا بِالَّذِي ** عَرَفْـتِ، وَلَا أَنْتِ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُ”
وعجيب ألا أعي أني من تغيرت أكثر؛ فقد كان مراهقا أيام كنت أستاذة أقدم له الدروس.
لكنه كان لبقا مؤدبا في التعامل، وهو ما حدث لاحقا مع زميل له في نفس المرحلة؛ وذلك حين زرت سفارة المملكة العربية السعودية بانواكشوط لتوقيع بعض الأوراق، وحين أوقفت السيارة جاءني ضابط الحرس قائلا:
-يمنع ركن السيارة في هذا المكان، فاستدرت شمالا وأوقفتها على مسافة من مقر السفارة، ثم دلفت إلى المبنى وانتظرت المسؤول عن التوقيع، ولما استبطأته تركت الأوراق على وعد أنها ستكون جاهزة في الغد.
فور خروجي قابلني الضابط هاشا باشا وقال:
-أستاذة لو كان يسمح بالتوقف في هذا المكان لما أزعجتك بطلبي، ولكنها التعليمات الصارمة من المسؤولين.
أشفقت عليه فقد كان صادق اللهجة، حائل اللون من حر الشمس، جسمه النحيل ووجهه المتغضن ورأسه الأصلع تعطي انطباعا بأنه تجاوز السبعين.
قلت: لا عليك، جزيت خيرا، أنا كسائر الزوار.
فرد: كلا، أنت استاذتي وقد درستني في الثانوية، وبدون ترو أو تفكير أفلتت مني عبارة: (گُــولْ عَـنَّكْ مَا رَدَّيْـتْهَا اعْـلِيَّ)، صحوتُ صحوة ندم على ما بدر مني تجاه الرجل، وتمنيت لو يمكن استرجاع الكلام، وضايقتني مسايرته لي وأنا أمشي (مَشْيَ الْهُوَّيْنَا على أَغْـرَادِ بَـلْـشَـانَا) حتى السيارة.
في الغد بحثت عن من ينوب عني في استلام الأوراق، فلا يمكن مواجهة الرجل المهذب بعد تلك الزلة؛ فقد كنت الأستاذة وكان التلميذ الفتي، وما أصدق ما قال جميل-مع اتساع الفارق بين الحالتين-:
تَــقُـــولُ بُـثَـيْـنَــــةُ لَـمَّـا رَأَتْ ** فُـنُــونًا مِـنَ الشَّـعَــر الْأَحْـمَـــرِ
كَبُرْتَ جَمِيلُ وَأَوْدَى الشَّبَـابُ ** فَـقُـلْـتُ بُـثَـيْــنَ أَلَا فَاصْـبِـــرِي
أَتَـنْـسَـيْـــنَ أَيَّـامَــنَــا بِاللِّــوَى ** وَأَيَّــامَـنَـــا بِــذَوِي الْأَجْــفَـــــرِ
أَمَـا كُـنْـتِ أَبْـصَـرْتِـنِي مَــرَّةً ** لَـيَـــالِيَ نَـحْــنُ بِــذِي جَـهْـــوَرِ
لَـيَـالِيَ أَنْـتُـمْ لَـنَــا جِــيــــــرَةٌ ** أَلَا تَـذْكُــرِيــنَ؟ أَلَا فَاذْكُـــرِي!
وَإِذْ أَنَـا أَغْـيَـدُ غَضُّ الشَّبَابِ ** أَجُـــرًّ الــرِّدَاءَ مَــعَ الْمِـئْـــزَرِ
وَإِذْ لِـمَّـتِي كَجَـنَاحِ الْغُـرَابِ ** تُــرَجَّـــلُ بِالْـمِـسْـكِ وَالْعَـنْـبَـرِ
فَغَـيَّــرَ ذَلِـكَ مَـا تَعْـلَـمِـيــنَ ** تَـغَـيُّــرُ ذَا الــزَّمَـنِ الْـمُـنْكَــرِ
وَأَنْـتِ كَـلُـؤْلُـؤَةِ الْمَرْزُبَـانِ ** بِـمَــاءِ شَـبَـابِـكِ، لَمْ تُعْصَرِي
قَـرِيـبَـانِ، مَـرْبَعُـنَـا وَاحِـدٌ ** فَكَـيْـفَ كَـبُـرْتُ وَلَمْ تَكْـبُـرِي؟؟؟
في لحظة استرجاع وتأمل عرفت كم كان الطلبة مؤدبين.
Sama Ramaد/باته البراء