كثيرا ما ينعت شعر الفقهاء بأنه شعر بارد لا روح فيه ولا إمتاع، فأغلب أشعارهم جاءت تقييدا لفوائدعلمية وضبطا لأحكام وتشريعات، ذلك أن رسالة الفقيه تتطلب الجد والصرامة وتقتضي النصح والإرشاد لتهدي الناس إلى سواء السبيل.
إلا أن استثناءات أحيانا تخرم تلك القاعدة، وذلك عندما تتلبس الفقيه روح الشعر فيمنح نفسه مساحة من حرية القول تنأى بها عن سلطة النموذج وترتفع بها إلى سماء الإبداع، مما يثير المتعة لدى المتلقي ويرقى به إلى مدارج الخيال.
وقد استوقفتني طلعة خفيفة في إحدى المجموعات الواتسابية للقاضي شكرود، وأثارت لدي شهوة الكتابة، يقول:
گُـولِـيـلِـــي يَـچِـلِّـيــــتْ @ يَـكَــــــانِي لَا صَـلَّـيْــــــتْ إِفْـلِـمْـسِـيـدْ ؤُوَلَّـيْـــتْ @ وِاگْعَـدْتْ اشْوَيْ احْذَاكْ تَـمِـدْغِــيلِي چِـلِّــيـــتْ @ گِـشْــرَه ولْلَّ مِـسْـــواكْ؟
جاء النص جملة استفهامية موسعة بدأت بفعل الأمر والمنادى: (گُـولِـيـلِـــي يَـچِـلِّـيـــتْ)، ثم تخللتها ثلاث جمل خبرية: (يَـــكَـانِي لَا صَـلَّـيْــــتْ/ ؤُوَلَّـيْــتْ/ وِاگْعَـدْتْ اشْوَيْ)، لنصل في التافلويتين الأخيرتين إلى تمام الجملة الاستفهامية وجوهر السؤال: (تَـمِـدْغِيلِي چِـلِّــيـــتْ @ گِـشْـرَه ولْلَّ مِـسْـــواكْ؟).
ولعل المفارقة تكمن في القيام بالصلاة وأدائها في المسجد ثم السؤال المطروح الذي يُتِمُّ الجملة الاستفهامية ويأتي ختاما للنص.
فهل كان المتلقي يتوقع بعد كل الممهدات ذات المسحة الدينية أن يطرح سؤال مماثل؟
إن أول فعل يقوم به القاضي هو الصلاة في المسجد، ثم العودة منه، والتلبث يسيرا قرب المعنية، هذه اللحظة الفاصلة بين الصلاة ومتابعة السير، هي بؤرة التوتر في النص ومركز الثقل فيه، فلم تكن أفعال الطاعة والخير السابقة عليها إلا تمهيدا لها، وتأكيدا على أن للقاضي جانبا من الله لا يضيعه؛ وهو الرجل المتفقه في أمور الدين، ولكن للقلب ونوازعه جانبا لا يمكن إلغاؤه وهو الشاعر المرهف، ولكن ما يريده ويسأل عنه ليس حادا ولا سافرا، بل إن العفة والعذرية بارزة القسمات فيه: (تَـمِـدْغِيلِي چِـلِّــيـــتْ @ گِـشْــــــــرَه ولْلَّ مِـسْـــوَاكْ؟)
إن للسؤال المرتبط بالمسواك رمزيته التليدة في لغن الحساني، فكثيرا ما يمنع الحياء المعرفي الشاعر الموريتاني من التصريح ببغيته، والإحالة إليها بملازم لها، فعُودُ الأراك أو البشام يمثل الكثير بالنسبة للمُحب، وعندما يحظى بنيله أو يخطفه عنوة من صاحبته يظل محافظا عليه باعتباره كنزا ثمينا، خاصة وأنه لامس ثغر الحبيبة وتخلل ثناياها، يقول أحمدو بمنب ولد أحمد ولد ألمين مناجيا مسواكا صغيرا يحتفظ به:
يَـوْگِي بِـيـكْ امْسَـيْـوِيــكْ @ مُـلَانَ عَـاگِـــــــدْ فِـيــــــــكْ حَــزْمِي مُـــــژَبِّي بِــــــيــكْ @ وَاثْقَلْ شِي عِدْتْ امْعَاكْ خَـالِـــگْ لِي لِـمْسَــــاوِيكْ @ مَـــــا لَحْـگُـو بَـــــلْ اغْــلَاكْ بِافْـــرُوغَــــكْ مَـــانِي گــادْ @ نِـسْـتَـغْــنَ عَـنْ مِـسْــوَاكْ ؤُذاكْ الْلّيِ غَــــيْــــركْ زَادْ @ لَخْـــلَاگِـي مَــاهُــو حَـــــاكْ
فالشاعر لا يريد للمسواك الصغير أن ينتهي إذ ليس له ما يعوضه، وهو ما يوحي بندرة جنسه وصعوبة الحصول على مثله.
وللشيخ ولد مكي وقفات أثيرة مع المسواك، ففي إحدى رسائله يوصي صديقه المسافر إلى الوطن أن يحصل له على مسواك من الحبيبة، وأن يتقي الله في أداء الأمانة:
لَا جَـيْــــتْ إِلْ مَـتَّــانِـــتْ لِـهْــلَاكْ @ گُولْ الْهَا عَنِّي كِنْتْ امْعَـاكْ مِسْـتَحْـفِي، رَاهِي تَـــفْهَـــمْ ذَاكْ @ وِالْلِّي گَـالِـتْ لَكْ گُـولُـولِي ؤگُولْ الْـهَا تِـرْسِـلْ لِّي مِسْــوَاكْ @ ويِــــلَا طَـاتُـولَـكْ جِـيـبُــــولِي ؤُگُـــــولْ الْـهَـا هَـــــــــاذَ حَـــــگَــلْلَّ @ ؤُسَـوَّلْـهَالـِي عَـنْ مَـرْسُولِي كَــــانُـو كَـــــالْ ارْسُــــــــولِي وَالْلَّ @ يَكَــانُـو مَـــا كَـالْ ارْسُـــــولِي؟
ويقول في طلعة أخرى متغنيا بمسواك منح له تحت جنح ليل بهيم: يَـــــلَّالِي بَــعْــــدْ @ فِـيَّ مَـــبْــــعَـــدْ مِسْــوَاكْ امْـتَـدْ @ لِي يَالْـفَــــكَّــاكْ مَــــــدُّولِي حَـــدْ @ فِاللَّـيْـلْ ابْهَــاكْ ؤُيَـــــــلَّالِـــي زَادْ @ مَــعَـــــدَّلْ ذَاكْ الْـحَـــــدْ الْـمَــــادْ @ ذَاكْ الْمِسْوَاكْ
فقيمة المسواك يكتسبها من صاحبته، ويستمد رمزيته من كونه ملازما لِفِيهَا، فالحصول عليه يقوم مقام قبلة لثغرها، والقاضي شكرود عندما يطرح السؤال فإنه يقصد ضمنا ملازم المسواك، مع أنه حاول الإيهام بأنه أورده على سبيل التداعي؛ حين قال: (تَـمِـدْغِيلِي چِـلِّــيـــتْ @ گِـشْـرَه)؛ وهي كناية عن الإعراض عن الشيء، وذكر الگِـشْـرَه يستدعي العود، يقولون في المثل: (يدخل بين الگِشره والعُودْ)، أي أنه يحشر نفسه في كل شيء. والقاضي لديه مطلب يتضح من السياق أنه تقدم به مرات إلى چِـلِّــيـتْ وفي كل مرة كانت (تَـمْـدَغْ لُو گِشْره) أي تُعرض عن المطلب، ولا تعطي جوابا صريحا، وقد أوضح التداعي طبيعة المطلب فجاء المسواك إحالة رمزية إليه لأنه ملازم له.
فالخطاب خطاب مُشَفَّرٌ دَالٌّ، يحتاج إعادة نظر في النص لفهم إحالاته الضمنية، وهو مجلل بالحياء المعرفي والوقار الفقهي إلا أنه لا يلغي نوازع القلب وأمنياته.
ولا شك أن الفقيه وهو يريد الحصول على غاية ما يمكن أن يجد لها تخريجا مقنعا في النصوص، أو يلويَ أعناق النصوص ليسوغها، يقول أحد فقهاء سبتة:
يَــقُـــولُ لـِيَ الْمَحْـبُوبُ لَـمَّـا لَثَمْـتُـهُ ** وَقَـبَّلْتُ فَـاهُ وَهْوَ كالْـبَــدْرِ سَـافِـرُ
أَجَــوَّزَ هَـــذَا يَـا مُـحَــمَّـدُ رَبُّــنَـــا؟ ** فَـقُـلْتُ نَعَــمْ، مِثْلِي لِـمِثْلِكَ عَـاذِرُ
فَلَا إِثْـمَ فِـي وَصْـلٍ لِـصَــــبٍّ مُتَيَّمٍ ** وَمُـفْـتِـيـكَ فِي هَـذَا فَقِيهٌ وَشَاعِـرُ
الأديبة والشاعرة….باته البراء