في أواخر الستينات كان لدى الإذاعة الوطنية طاقم متميز من المذيعين ينعشون برامج ثقافية هامة، لاقت صدى كبيراً في الأوساط الثقافية آنذاك، وقد تميز برنامج الأدب الذي كان يعده ويقدمه عميد الأدب الشعبي محمدن بن سيد ابراهيم- رحمه الله- وبلغ درجة عالية من الاستقطاب، خصوصاً من طرف فئة الشباب الذين كانوا يبعثون برسائل إلى البرنامج تحتوي على نصوص شعرية حسانية، و ألغاز شعرية فصيحة يقدمها المذيع عبر الأثير.
وكان العميد آنذاك يؤسس لمرحلة من النقد الأدبي في غاية الرقي، حيث يقوم بمنح مراسل البرنامج الهاوي إجازة مكتوبة في الأدب الشعبي إذا رضي عن مستواه الشعري من حيث الكم والكيف، كما يشجع شعراء الفصيح الشباب من خلال بث ألغازهم الشعرية عبر الأثير، فيدفع ذلك أصدقاءهم من المستمعين إلى إرسال أجوبة شعرية لها في نفس البحر والروي، فيتم تقديمها في الحلقات اللاحقة من البرنامج.
يتطلب حلُّ الألغاز تفكيراً منطقياً وعقلياً عميقاً للإهتداء إلى جوابها الصحيح، وقد عرف العرب قبل الإسلام نوعاً من الألغاز كانت ترد معانيه في أشعارهم من قبيل الترويض الذهني كالجبر و المعادلات ذات المجهول الواحد كاللغز الذي ينسب لزرقاء اليمامة:
ليت الحمام ليه *** إلـى حـمامتيه
أو نصفه فقــديه *** صار الحمام ميه
وقد أشار النابغة الذبياني هذا اللغز في اعتذاريته الدالية الشهيرة حينما طلب من الملك النعمان أن يكون حكمه كحكم فتاة الحي الذكية فقال:
احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت *** إلى حمـام شراع وارد الثمد
قالت ألا ليتما هذا الـحمام لنا *** إلى حمـامتنا مع نصفه فقد
فحسـبوه فألفوه كما ذكرت *** تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد
فكملت مائة فـيها حمامتها *** و أسرعت حسـبة في ذلك العدد
شهدت الألغاز الشعرية قمة تطورها في العصر العباسي مع بروز مقامات الحريري،حيث حوت بين ثناياها العديد من الأشعار التى تحوي ألغازاً فقهية و أدبية، فقد تضمنت المقامة الفرضية لغزاً فقهياً في التركة أورده الحريري على لسان بطله، وقد أجابه الشيخ السروجي بأبيات في نفس البحر والروي، كما أودع المقامة الطيبية مائة مسألة فقهية في شتى أبواب الفقه سنسوق أمثلة منها:
(… ما حكم من أمهم من فخذه بادية؟ قال صلاته وصلاتهم ماضية (الفخذ العشيرة وبادية سكنوا البدو)، فإن أكل الصائم ليلاً؟، قال ليشمر للقضاء ذيلاً (الليل فرخ الحبارى)، ما تقول في ميتة الكافر؟، قال هي حل للمقيم والمسافر (الكافر البحر وميتته السمك الطافي على سطحه)…).
وقد خص الإمام السيوطي الألغاز النحوية بالتأليف في كتاب سماه “الطراز في الألغاز” جمع فيه ألغاز الحريري النحوية و ألغاز كل من الزمخشري و السخاوي و الصلاح الصفدي، و أضاف إليها العديد من الألغاز المتفرقة في الكتب النحوية، كما ذكر أيضاً ألغازاً نثرية وشعرية وضعها هو نفسه في النحو.
أطلق لقب “الفتيان” (مشتق من الفتوة) على فتية من أهل انيفرار ولدوا في فترة زمنية متقاربة (عصر) فوافق الإسم عين المسمَّى، حيث تأثروا ب “الوسط” الذى عاشوا فيه، فحصلوا ما حصلوا من العلوم المحظرية في مدرسة الحي وختموا الدروس الإبتدائية في المحصر، و من مشاهير هذا العصر السادة أحمد سالم بن سيدمحمد بن النجيب الملقب النَّيدْ و محمدن بن احمادَ وعبد الله بن محمد صالح رحمهم الله، والشيوخ محمدفال بن عبد اللطيف و عبدالرحيم بن أحمدسالم، ومحمد سالم بن عبدالمومن و بيباه بن أحمد سالم و محمذفال بن عبدالله ومحمدن بن ديدِ وغيرهم حفظهم الله ومتعنا بهم.
ترك الفتية “الفتيان” انيفرار سنة 1966 واتجهوا إلى روصو لمتابعة دراستهم في المرحلة الإعدادية، وأعجبوا مثل غيرهم من الشباب بتقديم العميد القدير لبرنامجه الشهير، فقرروا أن يكونوا مستمعين مشاركين في أدبه و أحاجيه المثيرة، فبعث الفتى الأديب محمد فال بن عبد اللطيف باللغز التالي إلى برنامج “الأدب”
ما رجل نعـرفه كلنا *** سيان في ذاك الصبي والغبي
والده أربد مـن عامر *** و أمه وردة من تغلب
تبدو سطور المدح في وجهه*** كأنها مدح أبي الطيب
تمسك الناس به مذ أتى *** لأنه ذو مذهب طـيب
تفطن تربه الشاعر عبد الرحيم بن أحمدسالم إلى أنه ألغز في “حق المسك” فكتب أبياتاً جوابية قرأها السيد محمدن بن سيد ابراهيم في الحلقة الموالية من البرنامج وهي:
شممت ريح المسك من لغزكم *** والند و العنبر و الزرنب
وريح كافور أبي المسك من *** قد كان ممدوح أبي الطيب
فقلت ناصحاً لمـن عنده *** لغزكم و النصح من مذهب
تمسـكوا به فقـد كان ذا *** من عمل النبي في يثرب
صلى على النبي باري الورى *** و آله من كل آب أب
تلقفت أندية الشباب ومجالس الشيب اللغز وجوابه بعد إذاعتهما، و طربوا لهما نظراً لجودة سبك اللغز وحسن فك معماه من جهة، ولصغر سن الشعراء (14 سنة) من جهة أخرى ، فقرر “الفتيان” إعادة الكرة، لكن فكرة اللغز هذه المرة أوحى لهم بها الناموس الذي لم يكن ياتي موسى وعيسى عليهما السلام، حيث بعث الشاعر محمدفال بن عبداللطيف عبر البريد بالأبيات التالية:
ومُدْخَلةٍ خِـدنُها خِـدرُها *** تحف بها طـائرات العِدى
إذا الليل جنَّ تمادوا لها *** بطعن الرماح وضرب المُدى
فتهزمهم وهي مربوطة *** مُأسَّـرة تتـحرى غدا
وليست تمل لطول الحصار *** و لا تأخذ المال عند الفِدى
فانتدب الشاعر عبد الرحيم بن أحمدسالم مرة أخرى لجواب لغز تربه وصديقه فقال:
ولابد منها لساكن روصو *** إذا النهر يبدو لنا مزبدا
يشيدها دائباً في المسا *** و يصبح يهـدم ما شيّدا
إذا ما بنـاها بلا ثغرة * ستدرأ عنه جميع العدى ففي حضنها لا يَخافُ البعوضَ* وليس يخاف من أن يبردا
و بجدر التنبيه إلى أن الشاعر عبد الرحيم الملقب “دحيم” قد انتهج أسلوباً بلاغياً جميلاً في الجوابين السابقين ، حيث لم يصرح بأسماء الأشياء المورى عنها، بل اكتفى بنعتها ووصفها وصفاً دقيقاً ثم يأتي عادة بقرينة يرشح لها من خلال صفة كاشفة كافية لإزالة اللبس عنها، كقوله في جواب اللغز الأول: “تمسكوا به” مورياً بفعل الأمر عن العبارة الشائعة محلياً في استخدام الطيب. وفي الثاني بقوله: ففي حضنها لا يخاف البعوض.
قرر الفتى محمدسالم بن عبدالمومن أن يدلي بدلوه في غرض الألغاز، فأرسل بيتين جميلين إلى برنامج الأدب تضمنا اللغز الطريف التالي:
أحاجيك ما لفظٌ على أصل وضعه *** مُعَيِّنُ أشياءٍ لدى أهل “لِيسَتِ”
وإن قيل ذاك اللفظ في أي ساعة *** فهمنا به المقصود دون قرينةِ
تفطن الأديب محمد فال بن عبداللطيف إلى أن تربه يلغز في الجرس La cloche الذي يرن منبهاً التلاميذ المقيمين آنذاك في مباني ثانوية كزافيي كبولاني على أوقات الغداء والعشاء ومراجعة الدروس، فأجاب اللغز ببيتين طريفين قرأهما العميد محمدن بن سيد إبراهيم عبر أثير الإذاعة الوطنية:
لعلك تعني يا أخي دون مرية *** بذا اللفظ “إِكْلُوشاً” إذا هي صُنَّتِ
وتنطق بالتدريس والنوم والغذا *** فما نطقت إلا على الخير دلتِ
عاود الفتى الأديب محمد سالم بن عبدالمومن مراسلة برنامج الأدب، من خلال رسالة تضمنت لغزاً محيراً صاغه على طريقة الحريري فقال:
ما عـامل يخدمنا خدمة *** ضن بمـثلها على نفسه
يأخذ من رأس الفتى إن أتى *** تدرجاً للأخذ من فلسه
ما زاره ذو التــاج في ملكه *** إلا أزاح التاج عن رأسه
سمع المستمع الداه بن محمد عالي- رحمه الله- عبر الأثير أبيات صديقه السابقة، فأرسل إلى البرنامج قطعة شعرية جميلة فك من خلالها معمى اللغز المحير، وقد شاع جواب الداه وذاع وضاع مع الأسف وأرجو ممن يحفظه أن يتحفني به مشكوراً مأجوراً، وقد حاول صاحبكم منذ سنوات خلت أن يسير على خطى الفتيان رغم اقتناعه بأنه لن يبلغ شأوهم ولين يفري فريهم، فقال مجيباً لغز المهندس الأديب محمد سالم بن عبدالمومن:
إن ياته ذو لمة زائراً *** يُلبسه في الحين من لِبسه
فينتقي من وجهه تارة *** ومن عِذاره ومن رأسه
والعُرْف طبعاً يطَّبِيه الفتى *** والشيخ موكول إلى نفسه
وبينما كان الأديب أحمدُّ سالم بن محمذ باب مستلقياً تحت خيمة أهل امنِّ في انيفرار يستمع لبرنامج الأدب، إذ به يسمع لغزاً طريفاً بعث به الأديب عبد الرحيم إلى البرنامج جاء فيه:
وما رجل في البيت لم يُر جالساً *** طويلٌ عزيزٌ شامخ الأنف أحور
مظاهر ثوبي سنـدس وزبرجد *** ولكن أيام العري منه أكثر
إذا سار نحو البدو طالت حياته*** وإن صار في الأمصار فالعمر يقصر
ومهما سـقاه الماء ساق رأيته *** تغير حـتى إنه كاد يقطر
وإن جمعت منه جموع سلامة *** لدى محفل فالجمع جمع مكسر
بادر الأديب حدُّ رحمه الله إلى الدواة والقلم وارتجل جواباً بديعاً وصل إلى بريد الإذاعة، وأذاعه العميد في الحلقة الموالية وسمعه الفتيان في روصو وأطربهم، وكأن البرنامج أصبح جسراً للتواصل بين الأصدقاء الذين تفصلهم مسافات طويلة.
لم أظفر – مع الأسف- بجواب الأديب حدُّ وما زلت أواصل البحث عنه، وفي انتظار الحصول عليه أرجو من المتابعين الشعراء فك معمى اللغز الأخير ونظمه شعراً في نفس البحر والروي وعلى منهجية الأديب عبد الرحيم التي تتجنب التصريح بالمورى عنه وتكتفي بالترشيح له من خلال قرينة دالة عليه.
يعقوب اليدالى